فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}.
كان أعظم حائل بين المشركين وبين النظر في أدلة الإسلام انهماكهم في الإقبال على الحياة الزائلة ونعيمها، والغرور الذي غر طغاة أهل الشرك وصرفهم عن إعمال عقولهم في فهم أدلة التوحيد والبعث كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا} [المزمل: 11]، وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14 15].
وكانوا يحسبون هذا العالم غير آيل إلى الفناء {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24].
وما كان أحد الرجلين اللذين تقدمت قصتهما إلا واحدًا من المشركين إذ قال: {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36].
فأمر الله رسوله بأن يضرب لهم مثل الحياة الدنيا التي غرتهم بهجتها.
والحياة الدنيا: تطلق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها.
فإطلاق اسم {الحياة الدنيا} على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مقدر زوالها، فهي دُنيا.
وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد، أي حياة كل أحد.
ووصفُها ب {الدنيا} بمعنى القريبة، أي الحاضرة غير المنتظرة، كنى عن الحضور بالقرب، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت.
والكاف في قوله: {كماء} في محل الحال من {الحياة} المضاف إليه {مثل}.
أي اضرب لهم مثلًا لها حال أنها كماء أنزلناه.
وهذا المثل منطبق على الحياة الدنيا بإطلاقيها، فهما مرادان منه.
وضمير {لهم} عائد إلى المشركين كما دل عليه تناسق ضمائر الجمع الآتية في قوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم وعرضوا بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا} [الكهف: 47-48].
واختلاط النبات: وفرته والتفاف بعضه ببعض من قوة الخِصب والازدهار.
والباء في قوله: {به} باء السببية.
والضمير عائد إلى {ماءٍ} أي فاختلط النبات بسبب الماء، أي اختلط بعض النبات ببعض.
وليست البَاء لتعدية فعل {اختلط} إلى المفعول لعدم وضوح المعنى عليه، وفي ذكر الأرض بعد ذكر السماء محسن الطباق.
وأصبح مستعملة بمعنى صار، وهو استعمال شائع.
والهشيم: اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول، أي مَهْشومًا محطمًا.
والهَشْم: الكسر والتفتيت.
و{تذروه الرياح} أي تفرقه في الهواء.
والذرو: الرمي في الهواء.
شبهت حالة هذا العالم بما فيه بحالة الروضة تبقى زمانًا بَهِجة خَضِرة ثم يصير نبتُها بعد حين إلى اضمحلال.
ووجه الشبه: المصير من حال حسن إلى حال سَيّء.
وهذا تشبيه معقول بمحسوس لأن الحالة المشبهة معقولة إذ لم ير الناس بوادر تَقلص بهجة الحياة، وأيضًا شبهت هيئة إقبال نعيم الدنيا في الحياة مع الشباب والجِدة وزخرف العيش لأهله، ثم تَقلصُ ذلك وزوال نفعه ثم انقراضُه أشتاتًا بهيئة إقبال الغيث منبت الزرع ونشأتِه عنه ونضارتهِ ووفرتهِ ثم أخذهِ في الانتقاص وانعدام التمتع به ثم تطَايره أشتاتًا في الهواء، تشبيهًا لمركب محسوس بمركب محسوس ووجه الشبه كما علمت.
وجملة {وكان الله على كل شيء مقتدرًا} جملة معترضة في آخر الكلام.
موقعها التذكير بقدرة الله تعالى على خلق الأشياء وأضدادها، وجعل أوائلها مفضية إلى أواخرها، وترتيبه أسباب الفناء على أسباب البقاء، وذلك اقتدار عجيب.
وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله: {على كل شيء} وهو بذلك العموم أشبه التذييل.
والمقتدر: القوي القدرة.
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال، كقوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملًا.
والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب، قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ** بنون كرام سادة لمسوّد

و{والباقيات الصالحات} صفتان جرتا على موصوف محذوف، أي الأعمال الصالحات الباقيات، أي التي لا زوال لها، أي لا زوال لخيرها، وهو ثوابها الخالد، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية.
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم {الصالحات} على {والباقيات} لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات، لأنه قد شاع أن يقال: الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيرًا في الكلام حتى صار لفظ {الصالحات} بمنزلة الاسم الدال على عمل خير، وذلك كثير في القرآن قال تعالى: {وعملوا الصالحات} [الكهف: 107]، وفي كلامهم قال جرير:
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ ** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني

ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم {الباقيات} للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولًا لأنه ليس بباققٍ، وهو المال والبنون، كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد: 26]، فكان هذا التقديم قاضيًا لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله: {فأصبح هشيمًا تذروه الرياح} [الكهف: 45] مفيدًا للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله: {والباقيات} مفيدًا زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلامًا مؤكدًا موجزًا.
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير مردًا} [مريم: 76] فإنه وقع إثر قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثًا ورئيًا} [مريم: 73 74] الآية.
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطورًا لأذهان الناس، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضًا قدم في بيت طرفة المذكور آنفًا.
ومعنى {وخير أملًا} أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته.
وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد، ويأمل شيئًا تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
فلا جرم كان قوله: {وخير أملًا} بالتحقق والعموم تذييلًا لما قبله. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابًا وخير أملًا. والمراد من الآية الكريمة- تنبيه الناس للعمل الصالح. لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات. وهذا المعنى الذي ار له هنا جاء مبينًا في آيات أخر. كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [آل عمران: 14-15] الآية، وقوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9]، وقوله: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]، وقوله: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37] الآية، وقوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغي له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته. وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد، وهو الأعمال التي ترضي الله، سواء قبنا: إنها الصولات الخمس، كما هو مروي عن جماعة من السلف. منهم ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو ميسرة، وعمرو بن شرحبيل. أو أنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعل هذالقول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه احاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير، وعائشة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق أن {الباقيات الصالحات} لفظ عام، يشمل الصلوات الخمس، والكلمات الخمس المذكورة، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى: لأنها باقية لصاحبها غير زائلة. ولا فانية كزينة الحياة الدنيا، ولأنها أيضًا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. وقوله: {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} تقدم معناه. وقوله: {وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل: طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في مريم: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} [مريم: 76] والمرد: المرجع إلى الله يوم القيامة. وقال بعض العلماء: {مردًا} مصدر ميمي، أي وهير ردًا للثواب على فاعلها، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثوابًا على صاحبها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما عُلِم لدينا. وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبّه حال الدنيا في قِصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوتْ به الأرض، وأنبتتْ ألوانًا من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبلُ هذا النبات ويصير هشيمًا مُتفتتًا تذهب به الريح.
وهذه صورة كما يقولون منتزعة من مُتعدّد. أي: أن وجه الشبه فيها ليس شيئًا واحدًا، بل عِدّة أشياء، فإن كان التشبيه مُركّبًا من أشياء متعددة فهو مَثَل، وإنْ كان تشبيه شيء مفرد بشيء مفرد يُسمُّونه مِثْل، نقول: هذا مِثْل هذا، لذلك قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} [النحل: 74] لأن لله تعالى المثل الأعلى.
وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة حُلْوة نَضِرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئًا؛ لذلك سماها القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة، وإلا فأيّ وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عُلْيا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلًا للدنيا من واقع الدنيا نفسها.